• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تدابير مكافحة الفساد وفق نهج مبني على حقوق الإنسان

بهجت الحلو

تدابير مكافحة الفساد وفق نهج مبني على حقوق الإنسان

مكافحة الفساد يحتاج إلى خطة وبرنامج عمل تستند إلى عزم لاجتثاث هذه الآفة الخطيرة، وإلى تشريعات نافذه، وتدابير وسياسات فاعلة، وكذلك إلى آليات للمساءلة والمكاشفة والمحاسبة.

ونظراً لمساس الفساد بحقوق الإنسان المدنية والسياسية من خلال حرمانه من تولي الوظائف العامّة بسبب المحسوبية والتمييز، أو وصول مَن لا يستحق إلى مواقع وظيفية أو تمثيلية في الدولة  بطُرق فاسدة قائمة على الغش والتدليس والتزوير والمحاباة، ونظراً لمساس الفساد بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية من خلال انتهاك الحقّ في مستوى معيشي لائق، أو الحرمان من التعليم والتمتع بالصحّة أو السكن اللائق من خلال أنظمة حكومية يتحكم في مفاصلها موظفون يسلكون طُرقاً فاسدة لتحقيق ثراء غير مشروع، نظراً لذلك كلّه وبسبب المساس المباشر للفساد بمنظومة حقوق الإنسان، فإن رسم طريق  تسهم في مكافحة هذ الجريمة، يستوجب أن تكون وفق نهج قائم على حقوق الإنسان.

والنهج القائم على حقوق الإنسان هو إطار مفاهيمي يسعى إلى تحليل الالتزامات والتفاوتات ومواطن القابلية للتضرر، وإلى علاج الممارسات التمييزية، والتوزيع غير العادل للقوّة وهو ما يعوق تحقيق التقدم ويقوّض حقوق الإنسان. وبموجب النهج القائم على حقوق الإنسان، تترسخ الخطط والسياسات والبرامج على نظام للحقوق وتناظر الالتزامات التي ينشئها القانون الدولي. ومن شأن ذلك أن يساعد على تعزيز الاستدامة، وعلى تمكين المواطنين أنفسهم، وهم أصحاب الحقوق، من المشاركة في رسم السياسات وعلى مُساءلة مَن يتحمّلون المسؤوليات، وهم أصحاب الواجبات. وللنهج القائم على حقوق الإنسان مبادئ خمس تسعى هذه المقالة للاستناد عليها من أجل مناهضة الفساد، وهي الإلزامية القانونية، والتمكين، والمشاركة، وعدم التمييز والمُساءلة.

لقدد شدّد القانون الدولي لحقوق الإنسان على كرامة الإنسان، من خلال تمتعه بحقوقه الأساسية، من خلال الإعلان العالمي في مادّته الأولى التي نصت على أنّ الناس جميعاً يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً ويعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء،  ونظراً لأنّ آثار الفساد تشكّل مساساً بالكرامة المتأصلة بالإنسان الذي سيحرمه الفساد والمفسدين من حقوق التمتع بالفرص على قدم المساوة مع الآخرين، فإنّ ممارسة الفساد تعتبر انتهاكاً لمبادئ لإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وجريمة يجب استئصالها دون هوادة.

لقد بلغت ذروة يقظة العالم لمخاطر الفساد على حقوق الإنسان من خلال اتفاقية الأُمم المتحدة لمكافحة الفساد  لعام 2003 التي حثت الدول الأطراف على أن تعقد العزم كي تكشف وتمنع وتردع، على نحو أنجع،  كافة صور الكسب غير المشروع، وإلى سن تشريعات مكافحة الفساد، وإلى إرساء سياسات وبرامج فاعلة على طريق مكافحة الفساد عبر انشاء هيئات وطنية لمكافحة الفساد تتمتع بالاستقلالية المالية والإدارية والمهنية، وتتمتع بالوصول للحصول على المعلومات ذات الصلة، وسلطات شبه قضائية للتحقيق في شبهات الفساد، وفي القدرة على الإحالة إلى النيابة والقضاء أولئك المتورطين في جرائم الثراء غير المشروع.

ولقد قامت دولة فلسطين بموجب الانضمام لهذه الاتفاقية باتخاذ التدابير التشريعية والسياساتية لإعمال ما تضمنته الاتفاقية من خلال رزمة "تشريعات مكافحة الفساد" التي اشتملت على قانون الكسب غير المشروع في العام 2005، وفي العام 2010 عدّلته، وعدّلت تسميته بما يتلاءم مع اتفاقية الأُمم المتحدة لمكافحة الفساد، بحيث أصبح يسمى (قانون مكافحة الفساد)، وانشأت بموجبة هيئة وطنية لمكافحة الفساد، تباشر أعمالها وتقدم تقريرها لرئيس الدولة، وقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب  لسنة 2015، ووضعت الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد للأعوام 2015-2018 بمحاورها الأربعة التي اشتملت على منع وقوع الفساد والوقاية منه، وإنفاذ القانون والملاحقة القضائية، ورفع مستوى الوعي والتثقيف والتدريب والمشاركة المجتمعية، والتعاون الدولي.

إنّ مضامين الاإلزامية القانونية التي اشتملت على مكافحة الفساد وتجريمه ترتكز بشكل أساسي على ضرورة تمكين أصحاب الواجب من معرفة وفهم هذه الالتزامات وتعزيزها واحترامها والامتثال لها، وإلّا سيكونون عرضة للمُساءلة والمحاسبة.

ويستوجب التمكين لمكافحة الفساد ضمان تصميم التدخلات، وعمليات التنفيذ بطريقة تجعلهما يساهمان في عملية مكافحته من خلال تعزيز قدرات أصحاب الحقوق أنفسهم ليمارسوا حقوقهم من خلال القدرة على تقديم البلاغات، والشكاوى وتقديم المعلومات، أو الحصول عليها، والوصول إلى العدالة، والحصول على التعويض والانصاف وجبر الضرر.

والتمكين يعني تعزيز مساحة مسؤوليات الجهات الرسمية من أصحاب الواجب،  التي ينبغي عليها التصرّف بناء على نتائج تحليل السياق، وضمان حصول المواطنين على حقوقهم، وضمان وجود فهم مشترك بين أصحاب الحقوق وأصحاب الواجب عن إعمال حقوق الإنسان.

والتمكين ينطوي على توافر مصادر الوعي والتدريب وبناء القدرات لكل من (أ) أصحاب الواجب كي يصبحوا أكثر وعياً بنصوص القانون، وبلغة حقوق الإنسان التي تجرم الفساد الذي ينتهك الحقوق، وللتحوط من مثولهم للمساءلة حال انتهاك هذه المعايير، و(ب) توفير الوعي وبناء القدرات لأصحاب الحقوق من المواطنين وتمكينهم من سُبل مكافحة الفساد من خلال اللجوء لهيئة مكافحة الفساد، والقضاء والنيابة والبرلمان، ورفدهم بمهارات الاستخدام الذكي لوسائل الإعلام بصفتها أحد آليات الرقابة الشعبية الفعّالة، لفضح الفساد وتقديم المُفسدين لمحاكمة عادلة.

وتُعبّر مشاركة أصحاب الحقوق من المواطنين في رسم سياسات وخطط وتدابير مكافحة الفساد أمراً في غاية الأهمية، حيث أنّ مشاركة  أصحاب الحقوق بصورة فاعلة وحرة وذات مغزى، وليس مجرد استشارة، سوف يمنحهم القوّة والشجاعة للتصدي للفساد والإبلاغ عن حالاته وعن مقترفيه. إنّ غياب مشاركة أصحاب الحقوق واستثنائهم من الخطط الوطنية التنموية لمكافحة الفساد، يشكّل إنكاراً لحقوق الإنسان، ومن شأنه أن يضعف هذه السياسات والتدابير التي ستبدو آحادية فوقية، وستفضي إلى تمييز وخصوصاً بحقّ الفئات الضعيفة.

إنّ الفساد خطر جسيم يتهدد حقوق الإنسان ويجرد ضحاياه من حقوقهم الكفولة بالقانون، ويمنح مقترفيه مزايا وانتفاخ على حساب الآخرين، وسيكون الأطفال والنساء والأشخاص من ذوي الإعاقة وتلك الفئات الهشة الأخرى، أكثر تأثراً من نتائج الفساد. ومن هنا يجب أن تحاط برامج تمكين ومساعدة هذه الفئات بوسائل حماية أكبر تقيهم وتحميهم من مخاطر الفساد. وللإسهام في منع التمييز بحقّ هذه الفئات الضعيفة يجب تأهيل الموظفين العموميين، وكذلك العاملين في منظمات المجتمع المدني التي تعمل على برامج تنموية ذات صلة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والمرأة والطفل، وإذكاء وعيهم بمخاطر الولوج للفساد، وتطبيق مدونات سلوك أخلاقية ضمن أُطر عملهم المؤسسية والقانونية، وتعزيز قيم الأمانة والنزاهة والمسؤولية.

إنّ المُساءلة والمحاسبة تشكل رادعاً قوياً للفساد، وإنّ الرقابة التشريعية على أداء السلطة التنفيذية، وإقرار الموازنة، وأدوات الرقابة المعروفة مثل السؤال والاستجواب وحجب الثقة هي أدوات فاعلة بحقّ المتنفذين أصحاب الواجب الذين قد يستغلون مواقعهم الوظيفية لحرمان الضحايا بشكل فاسد وتعسفي من حقوقهم، وتشكل آليات الرقابة القضائية والنيابة العامّة، وتدابير حماية الشهود، أذرعاً فاعلة للمُساءلة والمحاسبة، كما أنّ العقوبات التأديبية والجزائية تسهم في وضع حد للفساد. وإنّ تقديم التقارير الكاشفة عن الذمم المالية للموظفين الذين يحتلون مواقع ومناصب وظيفية "قد يرتع فيها الفساد ويترعرع"  تشكّل أحد أدوات المُساءلة الوقائية المبكرة، وإنّ تقديم التقاريرالدورية للقطاعات المالية العامّة، وفي القطاع الخاص وللمنظمات غير الحكومية يشكّل أمراً يدخل في إطار الرقابة الفاعلة التي تثري موضوعات المُساءلة والمحاسبة ومنع تضارب المصالح، وتحد من الآثراء الفاسد، والكسب غير المشروع، ومكافحة ومنع غسل الأموال.

ولابدّ من تعزيز أشكال المُساءلة الشعبية المبنية على المشاركة والتمكين، والقيام بأنشطة إعلامية تسهم في منع التسامح مع الفساد.

إنّ مكافحة الفساد مهمّة قانونية وأخلاقية وطنية، تسهم في تعزيز وحماية حقوق الإنسان، وفي نجاح خطط التنمية وبلوغها أهدافها.

ارسال التعليق

Top